الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 02:01

الحلقة الخامسة من سلسلة بليغ النَّغم - بقلم :سيمون عيلوطي

سيمون عيلوطي
نُشر: 06/03/21 18:57


(الحلقة الخامسة من سلسلة بليغ النَّغم)
بليـــــــــغ النَّغـــــــــم:
قراءة جديدة في تجربة بليغ حمدي الفنيَّة والانسانيَّة(5)
سيمون عيلوطي

فيروز والحلم الذي لم يتحقَّق لبليغ حمدي

الملِّحن العبقريّ ابن الثَّلاثة والثَّلاثين عامًا، بليغ حمدي، لم يزر بيروت سنة 1964، وهو خاوي الوفاض، بل كان يتمتَّع برصيد فنيٍّ وافر، أثرى الأصوات الغنائيَّة بألحان وضعه في مصاف كبار الملحِّنين، جذب إليه الكثير من العشَّاق والمريدين، لا سيَّما حين وصلت ألحانه إلى قمَّة هرم الغناء العربيّ، أم كلثوم، في أغنية "حبِّ أيه" سنة 1960، "أنساك" 1961، و "سيرة الحب" 1964، ما أهَّله أن يجلس متألّقًا على عرش سيِّد درويش الذي بقيَ منذ رحيله في العام 1923، شاغرًا، لم يجد من الملحِّنين والموسيقيّين من يجرؤ على خوض المغامرة في التَّجريب والتَّجديد، كما فعل "درويش"، سوى بليغ حمدي، فاستحقَّ لقب موزارت الشَّرق.
في نفس الفترة التي واكبت زيارة بليغ لبيروت، تحديدًا بداية الستِّينيَّات من القرن الماضي، بدأ نجم الرَّحابنة وفيروز يسطع في سماء الأغنية اللبنانيَّة، والعربيَّة، وقد رأينا تلك التَّجربة الفنيَّة وهي تشقُّ طريقها بعناية فائقة، ومهنيَّة عالية، آخذة في التَّألق يومًا بعد يوم وسط دائرة جماهيريَّة تتَّسع من حولها لتشمل جميع الأقطار العربيَّة التي استقبلها، وتفاعلت معها، وسرعان ما أخذت تردّد أغنياتها في مختلف المناسبات الوطنيّة والشعبيَّة.
بليغ، بموهبته المتوهِّجة ألحانًا، رصد تألُّق تلك التَّجربة الفتيَّة، حالمًا أن يساهم هو أيضًا في انطلاقها، لا سيَّما أنَّ المسرح الغنائيّ عند الأخوين رحباني أدهشه وأسر كيانه، وقد تزامن عند زيارته لبيروت آنذاك، عرض مسرحيَّة "بياع الخواتم".
حَلمَ بليغ بالتَّعاون مع فيروز في هذه الزِّيارة، على أمل أن يبلور معها تلك النَّغمات والأفكار التي كانت تداعب خياله، فتأتي بعمل فنيٍّ يُرضي طموحاته، ويتجاوب مع تطلُّعاتِ صاحبة الصَّوت الملائكيِّ في تجديد فنِّ الغناء. لكن حلمه في لقائها تبدَّدَ، والنَّغمات التي في خياله ظلَّت مخزونة في وجدانه، عساها تتشكَّل يومًا في أعماله القادمة. بَيْدَ أنَّ ذلك لم يأثِّر على اعجاب الملحِّن الكبير بصوت فيروز الذي ظلَّ يصدح في أحلامه لما يحمله من طاقات تعبيريَّة جديدة، لم يشهد مثلها فنِّ الغناء العربيّ منذ عقود.
لا شكَّ أنَّ صوت السَّيدة فيروز مثَّل له حلمًا جميلًا ظلَّ يراوده، وجعله يُحفِّز الطاقات على إنشاء مسرح غنائيّ في القاهرة، يكون بمثابة الامتداد الطَّبيعيّ لمسرح سيِّد درويش.
إذا كانت تجربة الرَّحابنة وفيروز تنطلق من منابع الفولكلور الشَّعبيّ لتعانق بفنيَّة تصل إلى درجة ما يشبه إعجاز الإنشاد الأوبرالي، بما في ذلك التَّأثُّر بالتَّراتيل الكنسيَّة، السِّريانيَّة خاصة. فإنَّ بليغ حمدي يستند في أعماله على ألحان وإيقاعات التُّراث الشعبيَّ المصريَّ الذي سحره وانغمس في روحه، ما ساعده على إعادة صياغته وبلورته بأساليب موسيقيّة جديدة تُحاكي روح العصر، وتتجانس أيضًا بشكل أو بآخر مع تراث سيِّد دويش، وما يُمثَّله من تعبير أصيل عن الرُّوح الشعبيَّة؛ بما فيها التأثُّر بالإنشاد الدينيّ الذي أبدع في مجاله عندما لحَّن للنقشبندي "مولاي"، وغيرها. كل ذلك جعل فنَّه بمثابة الابن الشرعيّ لمجتمعه وبيئته، فاستحقَّ أن يُقال عنه، "مستقبل مصر في الموسيقى.
أميل إلى الاعتقاد أنَّ التَّعاون الذي أراده بليغ مع فيروز خلال زيارته لبيروت لو تحقَّق، لكان أضاف إلى تجربتها من ألحانه أعمالًا غنائيَّة خالدة، يحفظها التّاريخ، وتستقرُّ في الوجدان، تمامًا كما أضاف لتجربة أم كلثوم أعمالًا غنائيَّة جاءت على قدر كبير من الإبداع، والجمال، والتَّجديد.
من هذا المنطلق أراد أن يخوض مع فيروز نفس التَّجربة، فلحَّن لها، كما قرأتُ في بعض المصادر ثلاث أغنيات، لم تخرج إلى النُّور، بل بيقت حبيسة التَّسجيلات الخاصَّة به، ثمَّ لم نعد نعرف ماذا حلَّ بها، ربَّما الجَّواب عن ذلك نجده عند الكاتب أيمن الحكيم، مؤلِّف كتاب "موَّال الشَّجن"، الذي خصَّصه عن الموسيقار بليغ حمدي.
السُّؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا المقام هو: هل احتكر الرَّحابنة صوت فيروز، فأقاموا عليها حجرًا فنيًّا حَرَمَها من التَّعاون مع ملحِّنين خارج نطاق الأسرة، ثمَّ لماذا أوصدوا الباب أمام بليغ حمدي ومن قبله محمَّد الموجي الذي أعرب عن رغبته في التَّعاون معها، وهل جاء استقبالهم لعبد الوهَّاب ليتعاون مع فيروز من منطلق أن يفتح لهم هو بدوره أبواب مصر ومسارحها؟
يُرجِّح البعض أنَّ سبب ذلك يرجع إلى شخصيَّة فيروز الانطوائية الخجولة، بدليل أنَّها بعد انفصالها عن عاصي وابتعاد منصور لم تتعاون مع أحد من الملحِّنين غير ابنها زياد الرَّحباني. أمَّا البعض الآخر فقد أكَّد انها بعد انفصالها عن عاصي أرادت التَّعاون مع رياض السَّنباطي الذي لحَّن لها ثلاثة أغانٍ، لكنها لم تقم بغنائها، ربَّما لتردّدها من الإقدام على تجربة الغناء الطَّربيِّ، وهي المتألِّقة في الغناء الشَّعبيّ والتعبيريّ بلا منازع، وهناك من يدَّعي أنَّ الرَّحابنة لم يُحسنوا التَّعاون مع الفنَّانين على أساس النِّد بالنِّد، بديل أنَّ العملاق وديع الصَّافي تركهم وهو غير آسف على ما فعل، وغيره من الفنَّانين الذين حذوا حذوه بمجرد أن اشتدَّ عودهم، ملحم بركات مثلًا، حتى فيروز، زوجة عاصي الرَّحباني، ورافعة أعمالهم في الغناء والمسرح، لم تسلم من جفاف تعاملهم فجمَّدت مشاركتها معهم وهي في أوْجِ مجدها.
بليغ لم يتنازل عن حلمه في دخول الأجواء الرَّحبانيَّة-الفيروزيَّة، ولتحقيق حلمه دعا إلى مكتبه صبيَّة في عمر الورود، لم تتجاوز في حينه ربيعها الثامن عشر، تُدعى عفاف راضي، وهي مغنِّية معتمدة في الكونسرفاتوار، ما شجَّعه على أن يواصل معها حلمه الذي تجلَّى له في بيروت، وظلَّ يطارده أينما حلَّ، ... أصغى إلى صوت عفاف جيِّدًا، وجد فيه مساحة تتَّسع للغناء الشَّرقيّ، فسرعان ما أخذ يلحِّن لها أغنية "ردو السلام"، وقد ضمَّنها بتفاصيل موسيقيَّة مبتكرة، جعله يُغامر معها في تجربة ترتكز على إيمانه بصوتها الذي قال عنه في وقت سابق فريد الأطرش، وكمال الطَّويل، ومحمَّد الموجي: "صوت عفاف راضي أوبيرالي بامتياز، لكنه لا يصلح للغناء الشِّرقي". أمَّا بليغ فقد عرف كيف يبُدع لصوتها ألحانًا تجسّد حلمة في أن يخلق منها فيروزًا بنكهة مصريَّة. ثمَّ قدَّمها لتغنّي "ردوا السَّلام" إلى جانب عبد الحليم في حفل أضواء المدينة عام 1970، وقاد الفرقة الموسيقية هو بنفسه، تشجيعًا لها.
ومن الأغاني التي لحَّنها بليغ لراضي، أغنية "لمين يا قمر"، يدور لحنها في المناخ الفيروزي، ولكن بطابع مصريّ، نجدها على الرَّابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=KqkJ-9gx61k
وفي السّياق نفسه، فقد ورد في مدوَّنة بليغ حمدي على "الفيس بوك" ما يلي:
"من المفاجآت الغريبة أنَّه عندما اشتدَّت حالات الغضب بين الرَّحباني والسيَّدة فيروز، لم يجد الرَّحبانية تعويضًا عنها إلَّا في الاستعانة بعفاف راضي، وكأنَّ الأقدار ردَّت لبليغ الاعتبار"*.
*الإشارة هنا تُدلّ على إسناد دور فيروز في مسرحيًّة "الشَّخص" إلى عفاف راضي، وهي المسرحيَّة التي قام بتمصيرها بناء على طلب عاصي ومنصور الرَّحباني، الشَّاعر أمل دنقل، وقدمّت في القاهرة سنة 1982.
ربَّما تمصير هذه المسرحيَّة، (الشَّخص) واستبدال فيروز بعفاف راضي، بدَّد أحلام فيروز بدخول مصر من بوَّابة الأغاني الطربيَّة، فعادت إلى جمهورها، وأصالتها في "هدير البوسطة" و "كيفك انتَ ملا انتَ". ولعلَّ الأنغام التي دارت في خيال ذلك الشّاب عندما زار بيروت، عادت أليه فرصِّعت ألحانه بتنويعات جديدة، أضافت لرصيده الفنيّ جمالًا على جمال.
(يتبع)

مقالات متعلقة